موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي 

كما في كل حروب التحرر الوطنية للشعوب المُحتلة والمُستعمرة، فإن الشعب الفلسطيني ومقاومته يقدمون التضحيات، والتضحيات تسمى بالمقياس المادي خسائر، وهناك فعلاً خسائر في الأرواح والبُنى التحتية، لكنها في حقيقتها وقود للثورة، كلفة لابد منها، وتجربة تدفع مشروع الثورة التحررية الفلسطينية إلى الأمام، وكما انتصرت ثورات الشعوب في جنوب اليمن المحتل، وفيتنام، والجزائر سوف تنجح الثورة الفلسطينية.

 

  1. الانطلاقة المباركة

انطلقت مرحلة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر كردّ فعل جماعي ضد مشروع التصفية والتهجير الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، وما لبثت أن تحوّلت المواجهة إلى حربٍ مفتوحة انتهجت خلالها المقاومة الفلسطينية -بقيادة حماس وفصائل أخرى- منطق المواجهة الشاملة المباشرة مع العدو الصهيوني هذا التغيير في بنية الصراع حمل في طياته رهاناً مضاعفاً: أولاً على قدرة المقاومة في غزة على تحمّل الضربات الجوية والبرية المكثفة، وثانياً على إمكانية إجبار المجتمع الدولي على إعادة النظر في موازين القوى السياسية لصالح حقوق الشعب الفلسطيني.

 لقد أثبتت الأشهر الأولى أن المقاومة تملك عناصر مرونة استراتيجية: شبكات أنفاق متكاملة، قدرة متنامية للتصنيع المحلي للصواريخ والطائرات المسيّرة، وثقافة تعبئة شعبية واسعة سمحت لها بتحويل فداحة القصف إلى ميدان مقاومة قادر على إطالة أمد الاشتباك، وخلق كلفة ثابتة على "إسرائيل"، حتى في ظل التفوّق الجوي والتقني الإسرائيلي.

 في هذا الإطار، كان الرهان على أن "الاستنزاف غير المتماثل" يمكن أن ينتج توازنات جديدة في المعادلة السياسية الإقليمية، لكن هذا الرهان واجه ثمناً بشرياً ومادياً باهظاً، ونزاعاً دبلوماسياً حول طبيعة المشروع السياسي المقبل.

  1. التحوّل الميداني:

أدّى الردّ الصهيوني إلى حملة عسكرية إجرامية شاملة استخدمت القصف الجوي والعمليات البرية، واستهداف القيادات، ما دفع المقاومة إلى تعديل تكتيكاتها بالانتقال إلى القتال من العمق تحت الأرض عبر الأنفاق، واعتماد الانتشار اللامركزي لتفادي الضربات، لم تكتفِ المقاومة بالدفاع، بل أعادت تعريف المواجهة من خلال الكمائن، والعبوات الناسفة، واستخدام الطائرات المسيّرة في الرصد والهجوم، ما خلق معادلة جديدة بين الكلفة والفعالية، غير أنّ هذا التحوّل جاء بثمنٍ باهظ تمثّل في خسائر بشرية كبيرة، وتراجع في الإسناد المدني، وتضرّر بعض البنى التحتية الحيوية.

 

3. الخسائر القيادية والهيكلية وتأثيرها على التخطيط المركزي

شهدت المرحلة الثانية من الصراع استهدافاً دقيقاً لقيادات الصف الأول في الفصائل، ما اضطر حماس وغيرها من الفصائل إلى إعادة بناء هيكلها القيادي على نحو أكثر مرونة ولامركزية، أدى ذلك إلى انتقال من التخطيط الاستراتيجي الطويل إلى تخطيط تكتيكي قصير المدى، يعتمد على المبادرات الميدانية السريعة.

 عزز هذا التحول قدرة الوحدات الصغيرة على الصمود والاستمرار، لكنه في المقابل قلّص إمكانية تنفيذ العمليات المعقّدة التي تتطلب تنسيقاً مركزياً، وبذلك عوّضت المقاومة فقدان جزء من "القيادات المُخطِّطة" بظهور كوادر ميدانية شابة، ما سمح لها بمواصلة الهجمات رغم شدة الضغوط.

 

4. البنية اللوجستية والأنفاق مرونةٌ مُكلفة

أصبحت شبكة الأنفاق في غزة العمود الفقري لصمود المقاومة، إذ وفّرت لها حرية الحركة والتموين والقيادة رغم القصف المكثف، ورغم أن الضربات الإسرائيلية المتتابعة ألحقت أضراراً بمراكز التصنيع والمخازن، وأضعفت كفاءة الإمداد، فإن المقاومة نجحت في الحفاظ على قدرات إنتاج محلية مرنة لصواريخ ومسيّرات بديلة، وإن كانت أقل دقة ومدى، وبذلك بقيت قدرتها النارية فاعلة.

5. التأثير الإنساني والاجتماعي على قاعدة الدعم الشعبي

ترتبط القوة العسكرية للمقاومة بتماسك قاعدتها الشعبية التي صمدت رغم الدمار الهائل في المساكن والبنية التحتية. فمع تراجع قدرة العائلات على الإسناد اللوجستي، نجح خطاب المقاومة في تحويل المعاناة إلى مصدر تعبئة وصمود وكرامة، ما حافظ على صورتها الرمزية وقوتها المعنوية. غير أن هذا التوازن بين هشاشة الواقع المعيشي وصلابة الشرعية الشعبية يبقى هشّاً، وقد يتحوّل إلى نقطة ضعف استراتيجية إذا استمر تآكل القدرات الإغاثية وتراجعت قدرة المجتمع على دعم المقاتلين.

 

6. السياق السياسي والدبلوماسي: الضغوط على الهامش التفاوضي

وضعت المبادرات الدولية والإقليمية المرعية أمريكيا -لا سيما مقترحات إدارة غزة وإمكانية إنشاء "منطقة اقتصادية خاصة"- المقاومة أمام خيارين: القبول بترتيبات إدارية قد تقصّ من قدراتها أو الاستمرار في هامش عسكري يكلّفها دبلوماسياً وسياسياً.

قلّصت الخسائر الميدانية والقيادية قدرة بعض الأجنحة على تقديم تنازلات استراتيجية، لكنها في المقابل منحت الفصائل مرونة تكتيكية لاستغلال الهدن وإعادة التنظيم؛ النتيجة هي تقلّص هامش المناورة السياسي مع بقاء هامش ميداني يسمح بفرض كلفة إنسانية وسياسية على الخصم.

 

7. بناء الخلاصة الخلفية: توازن جديد بين التكلفة والشرعية

في الذكرى الثانية للطوفان المقاومة في غزة فقدت كثيراً من العناصر المادية والقيادية والإنسانية، لكنها استثمرت ما تبقّى من قدراتٍ في خطابٍ عملي يربط بين الصمود الميداني والشرعية الأخلاقية والسياسية. مكنها هذا من الحفاظ على قدرة استنزافية فعّالة، وأجبر البيئة الدولية على إعادة موازنة التعامل الصحفي والدبلوماسي مع القضية.

ورغم ذلك، فإن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في استعادة ما فُقد مادياً وقيادياً، بل في منع تحويل عمليات إعادة الإعمار والآليات الدولية إلى أدوات دائمة لتقييد القدرة العسكرية والسياسية للمقاومة. المحافظة على هذا التوازن هي الشرط الذي يقرر ما إذا كانت المقاومة ستتحوّل إلى مشروع تكتيكي طويل الأمد قادر على فرض تسويات مفيدة، أم إلى جسم يستنزف ويخسر تدريجياً هامش المناورة السياسي إلى جانب الخسائر الميدانية.

تضحيات المقاومة في غزة 

أ) الخسائر البشرية: الحجم، النوع، ودلالات الاستنزاف

تكبّدت المقاومة خلال العامين خسائر بشرية واسعة امتزج فيها مقاتلون ومدنيون نتيجة قصف جوي ومدفعي واسع وحصار، بحيث تَصَعّب الفصل بينهما إحصائياً، وهي تضحيات على درب التحرير. تشير تقديرات الأمم المتحدة ووزارة الصحة إلى عشرات الآلاف من الشهداء والإصابات، ما أضعف وحدات نخبوية ووظائف تخصصية (هندسة، طائرات مسيّرة، دعم لوجستي)، وأجبر الفصائل على نماذج تدوير القوى، وتعبئة بديلة في ظل نزوح واسع، وفقد متواصل للكوادر.

ب) الخسائر القيادية النوعية: أثر غياب "رأس التخطيط" وإعادة الهيكلة

استهدفت الضربات قادة ومخططين رئيسيين، ما حدّ من قدرات التخطيط المركزي، فانتقلت الفصائل نحو لامركزية أكبر، وتفويض صلاحيات ميدانية، الأمر الذي حافظ على الفاعلية التكتيكية للمجموعات الصغيرة، لكنه قلّص إمكانية تنفيذ عمليات معقّدة تتطلّب تنسيقاً مركزياً طويل الأمد.

ج) الخسائر المادية/اللوجستية

استُهدفت مخازن ومنصّات وورش تصنيع وأنفاق؛ وأدّت الضربات إلى إضعاف كفاءة الإمداد، وإتلاف أجزاء من البنية، لكن قطاعاً معتبراً من شبكة الأنفاق ظلّ فعّالاً أو قابلاً للإحياء، والنموذج التصنيعي اللامركزي سمح باستعادة إطلاقات صاروخية ومسيّرات متقطعة، النتيجة: تضرّر عميق للبنية المادية مع استمرار وظيفة قتالية بجودة ووتيرة أضعف.

د) خسائر القاعدة المدنية/الإسناد الاجتماعي

أفقد الدمار الشامل في البنى المدنية البيئة الحاضنة جزءاً من قدرتها الإسنادية، ورفع تكلفة الإيواء والتموين والتمويه. ورغم ذلك، استُغلّ هذا الدمار سياسياً لتغذية خطاب تعبوي أوسع، فبقيت الشرعية الشعبية والمناصرة الإقليمية رصيداً أخلاقياً وسياسياً للمقاومة، ما يحوّل الخسارة المدنية إلى ضعفٍ عملياتي ووسيلة تعبئة في آن واحد.

القدرات المتبقية وآليات العمل

رغم الدمار والخسائر الفادحة، ما تزال المقاومة في غزة تمتلك جوهر قوتها الردعية، إذ أعادت تشكيل بنيتها القتالية والقيادية على أساس اللامركزية التشغيلية، فانتقلت من الكتائب الكبرى إلى خلايا صغيرة أكثر مرونة وقدرة على الصمود.

القدرة الصاروخية: تراجعت الكمّية وبقي الردع النوعي، إذ حافظت ورش التصنيع المحلية على الحد الأدنى من الإطلاقات التي تُبقي العمق الإسرائيلي في حالة استنفار دائم، مؤكدة أن إرادة المقاومة ما زالت فاعلة رغم الاستنزاف.

الطائرات المسيّرة: أصبحت أداةً فعالة ومنخفضة الكلفة للاستطلاع والهجوم وإرباك الدفاعات، ما أدخل المقاومة عصر "الحرب الذكية" المعتمدة على الابتكار أكثر من التفوق المادي.

الأنفاق: رغم تدمير أجزاء منها، لا تزال الممرات الفاعلة تؤمّن حرية الحركة والتموين والقيادة، ما يجعل “الوجود تحت الأرض” أحد أهم ركائز الصمود الاستراتيجي.

التصنيع المحلي: أتاح النموذج الصناعي اللامركزي إنتاجاً ذاتياً مستمراً ولو بقدرات محدودة، مؤسساً لاقتصاد حرب مستقل يقلل الاعتماد على الخارج ويعزّز الاستمرارية في ظل الحصار.

القيادة والسيطرة: فقدت المقاومة عدداً من القادة الكبار لكنها طوّرت نظام تفويض ميداني مرن يعتمد على المبادرة الفردية، ما ضَمِن بقاء الفاعلية رغم ضعف التخطيط المركزي.

الدعم الشعبي: ظلّ الصمود المدني قاعدة الشرعية السياسية والمعنوية للمقاومة، فارتبطت معاناة السكان بفكرة الاستمرار والمقاومة كقيمة وطنية وجودية.

خلاصة القوى: تمتلك المقاومة اليوم قدرة على البقاء والردع الجزئي أكثر من النصر الحاسم؛ قوتها في مرونتها وتجدّدها داخل الركام، بينما التحدي الأكبر هو الحفاظ على توازن البقاء العسكري والشرعية الشعبية في مواجهة محاولات نزع السلاح عبر ملف إعادة الإعمار.

التقييم الاستراتيجي الراهن 

المقاومة الفلسطينية في غزة لم تُهزم؛ لكنها فقدت ميزتين: قدرة تخطيط مركزية واسعة، وهامشاً لوجستياً مطوَّلا. في المقابل، اكتسبت مرونة تشغيلية عالية  لا مركزية، هذه المرونة تجعلها قادرة على مواصلة حرب استنزاف مجزية سياسياً ومعنوياً، لكنها تقيّد قدرتها على تحقيق انتصارات عسكرية حاسمة، أو فرض تسوية سياسية مستقرة بمفردها. بالمحصلة: الوضع الراهن يُعبّر عن توازن هشّ: المقاومة قادرة على إبقاء "الكلفة اليومية" على العدو، بينما تقلّص الحيز السياسي المتاح لها أمام ضغوط إعادة الإعمار والآليات الدولية.

نقاط القوة المحورية

  • شرعية شعبية واسعة داخل غزة وفي المحيط الإقليمي، تُوفّر غطاءً سياسياً وإسناداً اجتماعياً.
  • مرونة تشغيلية لامركزية تقلّل أثر الاغتيالات على الفاعلية الميدانية.
  • بقاء أجزاء فاعلة من شبكة الأنفاق، وقدرة تصنيع محلي تسمحان باستئناف جزئي للقدرات الصاروخية والمسيّرات.
  • امتلاك أدوات منخفضة الكلفة وذات أثر تكتيكي (المسيّرات والكمائن) تزيد من كلفة الدفاع الإسرائيلي.
الختام:

إن معركة غزة لم تعد مجرّد مواجهة عسكرية، بل تحوّلت إلى صراعٍ شامل على الإرادة والسيادة والوعي. فالمقاومة -رغم ما فقدته من بشرٍ وقياداتٍ وبنى- ما تزال تمتلك روح المبادرة وقدرة البقاء في وجه آلة الحرب، مدعومةً بوعيٍ شعبيٍ يرفض الخضوع ومحاولات التدجين السياسي تحت غطاء الإعمار أو التسوية.

إن التحدي في المرحلة المقبلة لا يقتصر على ترميم القدرات الميدانية، بل يتجاوزها إلى إدارة النصر المعنوي، وتحويله إلى مكسبٍ سياسيٍ دائم، يحفظ خيار المقاومة كجزءٍ أصيلٍ من معادلة المنطقة، ويُبقي القضية الفلسطينية في مركز الوجدان العربي والدولي كرمزٍ للتحرر والعدالة.