موقع أنصارالله . تحليل | أنس القاضي
في الثامن من تشرين الأول أكتوبر 2023م وبعد يوم من طوفان الأقصى دخل حزب الله على خط المواجهة إسناداً للمقاومة الفلسطينية، فكانت أول طلقة إسناد لغزة، قبل انخراط بقية ساحات محور المقاومة، في سبيل هذا الموقف الأخلاقي والاستراتيجي، قدم الحزب كثيراً من التضحيات، وفي المقدمة الشهيد الأعظم السيد حسن نصر الله، ورفاقه من قيادة الصف الأول في الحزب، وكثير من الكوادر. ولأن المقاومة اللبنانية وُجِدت لتحرر الأرض وتنتصر فهي تعيد بناء نفسها، وتواجه بحكمة ومبدئية ضغوطاً داخلية وخارجية، وسوف تنتصر في ذلك كما عودتنا كل مرة.
يشهد المشهد الإقليمي في الذكرى الثانية لـ"طوفان الأقصى" حالة من التداخل بين الهدوء الميداني النسبي في قطاع غزة والتوتر المشتعل على الجبهة اللبنانية، حيث تحاول "إسرائيل" تحويل زخم الحرب في الجنوب الفلسطيني إلى مكسب استراتيجي شمالاً عبر تكثيف الاعتداءات الجوية والاغتيالات في لبنان.
في مزاعمه الأخيرة -التي ربما تكون صحيحة وهي مؤشر هنا- أعلن الجيش الإسرائيلي أنه استهدف "معسكرات الرضوان" التابعة لحزب الله شرق لبنان، بحجة -وليس له حجة أصلاَ- استخدامها لتدريب عناصر على تنفيذ عمليات ضد الكيان. هذه العمليات تأتي في سياق ما يسميه كيان الاحتلال "إزالة التهديدات المحدقة"، لكنها في جوهرها تمثل محاولة لتقييد فعالية المقاومة اللبنانية، ومحاولة منع الحزب من إعادة بناء قداته.
في المقابل، حافظ حزب الله على نهج الردع المضبوط منذ 8 أكتوبر 2023م، إذ اختار أن يرد بطريقة محسوبة تراعي توازن الردع القائم منذ ما بعد حرب تموز 2006م، دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة قد تفتح الباب أمام عدوان واسع. ومع ذلك، فإن تكرار الغارات في العمق اللبناني واستهداف شخصيات ميدانية وقيادات كبرى في الفترة الماضية أظهر أن العدو يحاول اختبار حدود هذا التوازن وكسره، وحاليا فإن الاعتداءات الصهيونية هي لقياس مدى قدرة الحزب على إعادة معادلة الردع، وتعويض التضحيات التي قدمها.
على المستوى الداخلي، تتصاعد الضغوط السياسية على حزب الله من قِبل قوى داخل الحكومة اللبنانية، ومن أطراف غربية تسعى لربط المساعدات الاقتصادية والعسكرية للبنان بمسار "حصر السلاح بيد الدولة"، ورغم تكرار الحديث الرسمي عن سحب السلاح، فهو يفتقد إلى التوافق الوطني، ناهيك عن عدم واقعيته.
من الناحية السياسية، تمثل هذه الدعوات الداخلية أداة ضغط غير مباشرة تمكّن الغرب من إعادة تشكيل المشهد اللبناني بما يتناسب مع مصالح الغرب الأمنية. وهي تأتي في سياق خطة أوسع تهدف إلى تفكيك البيئة الحاضنة للمقاومة عبر الاقتصاد والإعلام والسياسة، وليس فقط عبر المواجهة العسكرية، ومع ذلك، ما زال الحزب يحتفظ بشرعية شعبية وسياسية واسعة، حيث يُنظر إليه بكونه القوة الوطنية الوحيدة القادرة على حماية البلاد من العدوان الصهيوني، في ظل ضعف الدولة ومحدودية إمكانات جيشها، وهو جيش وطني لكنه مكبل بالسياسة، ومُجردٌ من السلاح بفعل سياسة أمريكية صهيونية فرنسية مستمرة.
إقليمياً، ترتبط التطورات في لبنان ارتباطاً وثيقاً بالمسار العام لخطة ترامب للمنطقة التي أعادت الولايات المتحدة طرحها تحت عنوان "السلام مقابل التنمية"، وهي في حقيقتها محاولة لإعادة صياغة خريطة النفوذ في المشرق العربي من خلال نزع سلاح المقاومة في غزة ولبنان، وتثبيت ترتيبات أمنية جديدة، لكنها تواجه بالرفض والصمود.
هذه الخطة تتكامل مع الموقف الأوروبي الداعي إلى "ضمان أمن إسرائيل"، وتحييد السلاح "غير النظامي" في المنطقة، والمقصود به سلاح المقاومة، ما يجعل الضغط على حزب الله امتداداً طبيعياً للضغوط المفروضة على المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها حركة حماس.
على الصعيد الدولي، تحاول واشنطن وكيان الاحتلال الترويج لروايةٍ مفادها أن المقاومة أصبحت عبئاً على الاستقرار اللبناني، لتبرير أي اعتداء عسكري مقبل، وفي المقابل فإن موقف حزب الله -كما يتضح من بياناته وتصريحات نوابه- يقوم على الرفض المطلق لسحب السلاح في ظروف كهذه.
موقف حزب الله:
يقف حزب الله اليوم عند مفترق حرج في تاريخه العسكري والسياسي، إذ يتعرض لضغوط متداخلة: ميدانية عبر الغارات الإسرائيلية على الجنوب والبقاع، وسياسية عبر حملات نزع السلاح التي تتبناها أطراف لبنانية مدعومة غربياً، كل ذلك في ظل خسارته الصف القيادي الأول.
ومع ذلك، فإن بنية الحزب الفكرية والعقائدية تجعله يرى في هذه الضغوط تأكيداً على صوابية نهجه لا تهديداً لوجوده؛ فالمقاومة بالنسبة إليه ليست بنداً قابلاً للمساومة، أو خاضعاً للتسويات المرحلية، بل هي "هوية وطنية وأخلاقية"، ونمط حياة، ومشروع وجودها العسكري ما بقي الاحتلال، تستمد مشروعيتها السياسية من تاريخ الاحتلالات الإسرائيلية المتكررة، ومن عجز النظام الدولي عن حماية لبنان وسيادته.
في هذا الإطار، يتبنى الحزب استراتيجية مزدوجة تقوم على ضبط النفس العملياتي مقابل تصعيد الخطاب المقاوم والسياسي؛ فهو يدرك أن أي حرب مفتوحة لا تخدمه في اللحظة الراهنة، في ظل انشغال غزة بالحصار والمفاوضات، وتزايد الضغط على إيران وسقوط نظام سوريا الوطني.
يرى الحزب أن دعوات "حصر السلاح" ليست سوى ترجمة سياسية لخطة أميركية إسرائيلية، تهدف إلى إعادة لبنان إلى موقع الدولة الضعيفة المحايدة التي تتيح للعدو أن يضرب متى يشاء، لذلك فإن الخطاب الأخير لأمينه العام الشيخ نعيم قاسم اتخذ منحى أكثر وضوحاً في التأكيد على أن السلاح سيبقى ما دامت "إسرائيل" تحتفظ بقدرتها على العدوان، وأن المقاومة لا يمكن أن تُختزل في معادلة داخلية، بل هي جزء من توازن الردع الإقليمي الذي يربط غزة وبيروت وصنعاء وطهران في منظومة دفاع موحّدة.
موقف "إسرائيل": بين فشل الردع ومأزق المبادرة
أما الكيان الصهيوني فيواجه مأزقاً استراتيجياً غير مسبوق منذ حرب تموز 2006م؛ فالحرب في غزة لم تحقق أهدافها المعلنة، والمجتمع الدولي بدأ يرى في سلوك الكيان عبئاً أخلاقياً وسياسياً، ما دفعه إلى محاولة نقل الصراع إلى الجبهة اللبنانية لخلق توازن رمزي بعد إخفاقه في الجنوب الفلسطيني.
إنّ استهداف معسكرات ومراكز المقاومة في البقاع -حسب الادعاءات الإسرائيلية، هو جزء من هذا الجهد لخلق "صورة إنجاز أمني"، وإبقاء الحزب في وضع ثابت يمنعه من إعادة بناء قدراته. ومع ذلك، فإن هذه السياسة تنطوي على مخاطرة كبيرة: إذ إن أي خطأ في الحسابات قد يدفع حزب الله إلى رد نوعي يعيد التذكير بقدراته الصاروخية الدقيقة التي تستطيع تعطيل العمق المحتل.
تدرك المؤسسة العسكرية لكيان الاحتلال أن أي حرب واسعة على لبنان ستكون كارثية اقتصادياً وبشرياً، لكنه يعوّل على الضغوط الدولية والداخلية اللبنانية لتقويض قدرة الحزب على الرد، لذلك تركز "إسرائيل" على الضربات المحدودة، وعلى الحرب النفسية والإعلامية، وتوظف حلفاءها في بيروت لإعادة إنتاج خطاب "الدولة المخطوفة من الميليشيا"، وهو ذات الخطاب الموجه للمقاومة في غزة ولأنصار الله في اليمن.
غير أن هذا الخطاب قد فقدَ زخمه أمام الوقائع الميدانية التي تؤكد أن "الردع الإسرائيلي" قد تآكل، وأن المقاومة لم تعد تردّ فقط من منطلق الدفاع، بل من موقع الفعل الإقليمي الواعي الذي يربط بين الجبهات.
الموقف اللبناني الرسمي بين التناقض والارتهان
يعيش الموقف الرسمي اللبناني حالة ازدواجية مزمنة بين خطاب السيادة الوطنية وواقع الارتهان المالي والسياسي للغرب؛ فالحكومة -عبر تصريحات عدد من الوزراء- تكرر التزامها بـ"حصرية السلاح بيد الدولة"، لكنها -في الواقع- لا تمتلك الإرادة ولا القدرة على مواجهة الخروقات الإسرائيلية شبه اليومية، ولا على حماية حدودها الجنوبية من العدوان. في هذا السياق يصبح التركيز على سلاح حزب الله هروباً من مواجهة جوهر الأزمة، وهو العدوان المستمر، والاختراقات الجوية والسياسية التي تمارسها "إسرائيل" بلا رادع.
كما أن الحديث عن "دعم الجيش اللبناني" بمساعدات أمريكية مشروطة لا يمكن قراءته إلا في إطار إعادة هندسة التوازن الداخلي لتقليص دور المقاومة، وتقديم الجيش كبديل رمزي غير مؤهّل فعلياً للمواجهة.
يدرك الحزب هذه المعادلة جيداً، ولذلك يتعامل مع مؤسسات الدولة من موقع "الحماية لا التحدي"، أي أنه يسعى لتثبيت منطق الشراكة الوطنية دون أن يسمح بتحويل الدولة إلى منصة لنزع سلاحه. وبهذا المعنى فإن حزب الله يحاول الحفاظ على الدولة دون أن يُسلّمها بالكامل للوصاية الأجنبية، في حين تستمر بعض القوى في استخدام لغة "الدولة" غطاءً للمشاريع الخارجية.
المؤشرات الدولية والإقليمية:
على المستوى الدولي، تُظهر المؤشرات أن الإدارة الأمريكية تواصل استخدام أدوات التمويل والضغوط الدبلوماسية لمحاصرة المقاومة في لبنان، بالتوازي مع دعمها غير المحدود للعدوان على غزة. فالمنح العسكرية التي أعلنتها واشنطن للجيش اللبناني، والتي تبلغ 230 مليون دولار، ليست دعماً تقنياً بريئاً كما يُروّج، بل جزء من خطة لإعادة بناء التوازن الداخلي بحيث يصبح الجيش "المظلة الشرعية الوحيدة للسلاح" وفق التعبير الغربي، وهو دعم محدود لا يوازن القوة مع كيان الاحتلال.
ويتطابق هذا الأمر مع مطالب الأوروبيين الذين يضغطون في مجلس الأمن لتعديل مهام "يونيفيل" بحيث تشمل مراقبة تنفيذ القرار 1701 بنسخته الإسرائيلية.
تشير المعطيات الراهنة إلى أن المقاومة اللبنانية (حزب الله) تقف عند مفترق استراتيجي بالغ الحساسية في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، حيث توازن بين الحفاظ على معادلة الردع وبين تجنب الانجرار إلى حرب شاملة.
فالاعتداءات الجوية الصهيونية الأخيرة واستهداف القيادات الميدانية في البقاع والجنوب لم تغيّر من البنية الصلبة للحزب، لكنها هدفت إلى اختبار حدود صبره الاستراتيجي، ومحاولة إضعاف قدرته على المبادرة. حتى الآن، ما زال الحزب يردّ ضمن منطق "الصبر المحسوب" الذي يحافظ على الردع من دون تجاوز العتبة التي تتيح للعدو الدخول في عدوان واسع.
داخلياً، يواجه الحزب حرباً ناعمة مركبة من أدوات سياسية واقتصادية وإعلامية، تستهدف شرعيته وسلاحه تحت شعار "الإصلاح والدعم الدولي"، بينما تحافظ قاعدته الشعبية على تماسكها في الجنوب والبقاع باعتباره الضمانة الواقعية لحماية السيادة الوطنية، هذه الشرعية الشعبية تمثل رصيداً استراتيجياً في مواجهة الضغوط الغربية واللبنانية المتحالفة مع مشروع نزع السلاح.
أما إقليمياً، فالتقديرات تؤكد أن الضغط على حزب الله ليس معزولاً، بل يأتي في سياقِ مشروع أميركي أوسع لإعادة هندسة المنطقة تحت مظلة "السلام مقابل التنمية"، عبر إضعاف فصائل محور المقاومة، غير أن الحزب يواجه هذه الخطة بمزيد من التماسك.
في المحصلة، تقف المقاومة اللبنانية اليوم على أرضية متينة عسكرياً، لكنها محاطة سياسياً، وتمتلك من أدوات المناورة والردع ما يجعلها قادرة على ضبط ميزان الصراع دون فقدان المبادرة، وهي -أي المقاومة اللبنانية- تملك قدرة اليوم لمواجهة العدو، لكنها تكسب مزيداً من الوقت لإعادة التنظيم والبناء، وترى أن الحفاظ على وجود المقاومة اليوم أكثر أهمية من الرد على الاعتداءات الصهيونية ضمن الحد الذي يُمكن استيعابه.
وفي حال ممارسة الولايات المتحدة ضغوطاً (سياسية، مالية، ودبلوماسية) على الحكومة اللبنانية لتسريع عملية "حصر السلاح بيد الدولة"، واشتراط تقديم مساعدات واستثمارات مقابل إجراءات ملموسة ضدّ حزب الله، وإذا تزامنت هذه الضغوط مع سلسلة من الخروقات الإسرائيلية المستمرة على الحدود الجنوبية (قصف، اغتيالات، اعتداءات جوية أو برية محددة)، وفشلت قنوات الوساطة الداخلية في امتصاص الاحتقان السياسي والاجتماعي، فثمة احتمال كبير أن يختار حزب الله تحويل الضغط الداخلي -الذي يدفع لحرب- إلى مواجهة خارجية مع الكيان كخط دفاعي واستراتيجي، بهدف إعادة تشكيل موازين القوة، وتوجيه الجهود إلى العدو الحقيقي.