موقع أنصار الله . تقرير | وديع العبسي
وإن كابر "نتنياهو" والمجموعة المتطرفة ومعهم المتزلفون، تبقى الحقيقة شاهدة بأن العدو الصهيوني يقترب من حتمية الزوال. وإنْ رفعوا مِن عنفهم ووحشيتهم تبقى تلك الخدوش الغائرة في جسد كيانهم المُهترئ دالة على أن التحولات قد فرضت ظِلالها على الجغرافيا المحتلة، وتُنذر باستمرار حالة النزيف الذي يعيشه العدو الصهيوني. ومع كل جولة عدوانية يسيئون فيها إلى قيمة السلام، يَنْخَرون أكثر في كيانهم.
الأمر ليس بحاجة لأكثر من النظر إلى الداخل المحتل والتأمل في حالة اليأس والإحباط التي تُخَطُّ بتصريحات الكثير من نُخَب الكيان وقادة الدعم حول العالم، للوقوف على حجم الانقلاب الذي صار عليه واقع الصهاينة خلال السنوات الأخيرة والذي تسارعت وتيرته انحداراً بعد ملحمة "طوفان الأقصى". ولا يمكن قراءة رفع الكيان الإرهابي لوتيرة بَلْطَجَتِه في غزة والضفة ولبنان وسوريا في هذا الوقت وعقب افتضاح هشاشة الكيان إلا من زاوية شعور قادة الكيان بفداحة ما صار يُحيط بوجودهم من مخاطر وجودية، فيدفعهم ذلك إلى محاولة تدارُك ما أمكن وإعادة الواقع إلى وضعية الأمان واستعادة هيبة الردع، بإثارة الفوضى ومحاولة تكريس حالة الخوف لدى شعوب المنطقة.
تكشف محاولات تبديد مخاوف التلاشي من الجغرافيا العربية بأن المجلس الصهيوني العالمي يعيش وضعية الاستنفار لاستعادة ما فقده كيان الاحتلال خلال العامين الماضيين وزاد من القلق الوجودي لهذا الكيان، فمع اقتراب اكتمال حلقة لَعنة "الثمانين" التاريخية، هاهو العدو يعيش إرهاصات العُقدة التي تسيطر عليه، والأحداث تسير في اتجاه تراكم عوامل فنائه بصورة مُحْبِطة لمَن تبنوا المشروع الصهيوني في البلاد العربية والإسلامية. كما أن المتغيرات التي هزت صورة الكيان لدى الغاصبين قبل الآخرين وَلَّدَت حالة من انعدام الشعور بالأمان، ما انعكس على نفسيات الغاصبين فأسفر عن كثير من المظاهر، أبرزها قناعة الكثير منهم بأن الهجرة من أراضي الفلسطينيين والعودة إلى دول الشتات "الجنسيات الأصلية" هي أفضل قرار للبقاء في أمان، ومن يغادر لا يعود.
على أن هناك ما بات يلفت الانتباه والاهتمام إلى ما صار عليه مجتمع الغاصبين الذي يُعد ثروة الكيان للبقاء في الأراضي المحتلة، وهو تفاقم الشعور بالانهزام، وتبدُّد اليقين بإمكانية الاستمرار. ومؤخراً كشفت وسائل العدو عن حجم الانهيار النفسي العميق الذي يضرب المجتمع الصهيوني منذ عملية طوفان الأقصى، مُتوقعة أن تصل تكلفة الإصابات النفسية الناجمة عن العملية خلال خمس سنوات فقط إلى 500 مليار شيكل. وكشف تقرير لجمعية "نطال" الصهيونية المتخصصة في الأمراض النفسية والصدمات أن ما يقارب ثلث المجتمع الصهيوني يعيش اليوم انهياراً نفسياً مباشراً أو أعراض صدمة خطيرة تهدد حياته اليومية.
وتشير البيانات إلى أن نحو 625 ألف شخص من القوة العاملة داخل كيان العدو أصبحوا عُرضة -بدرجة عالية- لفقدان وظائفهم بسبب التداعيات النفسية، الأمر الذي يعني ارتفاع نسبة البطالة وتراجع معدل الإنتاج. وإذا ما أضفنا أن الكيان يواجه "انخفاضاً حاداً في الاستثمارات الأجنبية، وهروب رؤوس الأموال، وتراجع ثقة الشركات العالمية بالاقتصاد الصهيوني المضطرب"، نجد أن الكيان يتعرض لأزمة وجودية حقيقية. الأمر هنا لا يعني فقط المدنيين، وإنما أيضاً مُجندي العدو الذين أظهرت التحقيقات الداخلية تراجع القدرة القتالية لديهم، وأن الآلاف منهم يعيشون الخوف الدائم، دفعت البعض منهم إلى الانتحار، من بينهم ضباط. يقول موقع "واللا" العبري: إن حرب غزة لم تترك فقط آثاراً على الساحة العسكرية والاجتماعية، بل كشفت كذلك أضراراً عميقة عند أفراد المستوطنين المستفيدين من خدمات التأهيل في الصحة النفسية.
نهاية الشهر الماضي نقلت صحيفة “معاريف” العبرية عن المحلل العسكري "أفي أشكنازي"، تأكيده بأن الأجهزة الأمنية التابعة للكيان تعيش حالة انهيار مُتدَرِّج، تتجسَّد في عدم تنفيذ التعليمات، وانتشار ثقافة الكذب وإخفاء الحقائق، واستقالة الكفاءات المهنية التي ترفض العمل في “بيئة مريضة تعاني إفلاسًا مهنيًا وأخلاقيًا” حسب تعبيره. وكشفت الصحيفة العبرية -في تقريرها- عن تصاعد ظاهرة “الإرهاب اليهودي" داخل الكيان، وأكدت أن مناطق مختلفة في الداخل المحتل تعيش حالة فوضى وانتشار حروب شوارع تُنَفِّذها عصابات "إسرائيلية" مسلحة. وقال المحلل العسكري أشكنازي -وفق الصحيفة- إن معطيات العنف والقتل تُظهِر أن “الأمور خرجت عن السيطرة بالكامل”.
وتذهب الكثير من التحليلات إلى أن التداعيات العارمة لبَلْطَجَة العدو خلال العامين الماضيين لم تتسبب فقط بأحداث أمنية خطيرة هزت كيانه، وإنما كشفت أيضاً عن قدر كبير من الاختلالات البنيوية الاستراتيجية المرتبطة بالأساس الوجودي للكيان، طالت قضايا حساسة لم يعهدها بهذا الشكل منذ ظهوره عام 1948، فتراجعت صورة الردع، وبرزت الانقسامات، وعاش الداخل مشاهد لم تكن مألوفة قط ولا مُتوقعاً أن يعيشها الغاصبون وهم الذين تُحيط بهم مصَدَّات حماية في البر والبحر والجو من أمريكا وبريطانيا وألمانيا وباقي الأتباع، ما كشف بدوره عن حجم هشاشة البنية السياسية والأمنية لدى العدو.
ومن مظاهر انهيار العدو أيضاً الارتباك الذي يعيشه، وهو ما يراه خبراء الكيان في عَبَثِيّة استمرار إشعال الجبهات بصورة انتحارية وبلا حسابات مدروسة لإمكانات تحقيق النصر، أو على الأقل صياغة رسائل مُؤثِّرة للعرب وخصوصاً قوى محور المقاومة، كما عكس العدوان المستمر على جنوب لبنان، والغزوات للجنوب السوري مستوى هذا الارتباك وغياب الرؤية، ما يضع الكيان فعلياً في مُرَبَّع "العدَمية"، والتخبط، بلا هدف واضح ولا قدرة على فتح الآفق لتحقيق إنجازات نوعية، ما يُكَرِّس وضعية البَلادة التي يعيشها بممارسة أعمال عدائية تجاه "الأغيار" بقصد بَثّ الرعب بالإرهاب. يؤكد ما يُعرف بالجنرال "إسرائيل زيف"، رئيس شعبة التخطيط الأسبق في جيش الاحتلال، أنَّ عدوان "إسرائيل" في سوريّة يمثل تعبيرًا واضحًا عن ارتباك وغياب استراتيجية، في ظِلِّ غياب أيّ وضوحٍ سياسيٍّ بخصوص ما تريده، واصفاً الوضع بأنه “خطأ عملياتي يُميِّز نهاية الحرب على الجبهات الخمس، حيث لا أحد يَعلم أين نحن وإلى أين نتجه” حد قوله.
ومع أن تحركات مثل هذه لا تبتعد كثيراً عن مخطط اللوبي الصهيوني التوسُّعي لكيانه في الشرق الأوسط، إلا أن مثل هذا التحرك يرى فيه "زيف" “حماقة استراتيجية”، خصوصاً وأنها تتجاوز الاتفاقية الأمنية مع سوريّة، فباتت تتعامل مع الجنوب السوري وكأنه "الضفة الغربية" الفلسطينية حسب زيف الذي خلص إلى القول بإنَّ ”إسرائيل تعيش حرب استنزاف متواصلة، قد تتصاعد مستقبلاً، وتستمر في النزيف، لخدمة احتياجات نتنياهو الانتخابية، وتحديداً تأجيل المحاكمات، والعفو، وتجميد الحكومة حتى نهايتها”.
وفي غير موقف لم تُخفِ الإدارة الأمريكية غضبها من أداء الكيان المرتبك في مواجهة المقاومة عقب ملحمة (7) أكتوبر، وبالتزامن تراجع الدعم السياسي الدولي المفتوح، الأمر الذي يكشف عن عمق الاختلالات التي يعيشها العدو كما لم يحدث من قبل، واقترابه من المآل المظلم الذي يبدو أكيداً مع تراجع الركائز الثلاث التي قام عليها وجوده، ففي ركيزة التفوق العسكري انهارت هذه الكذبة كلياً، وبرزت قوى إقليمية ناشئة استطاعت أن تفضح حقيقة أن قوته ونظرياته الاستراتيجية للأمن القومي ليست أكثر من ترويجات وتضخيم إعلامي. وفي ركيزة الدعم الدولي اللا محدود تصدَّعت صورة الكيان في الأوساط الفكرية والسياسية، بعد أن ظهر بذلك العجز في إنهاء عملياته العدوانية سريعاً واستعادة القدرة على الردع، فضلاً عن حجم الجرائم الإنسانية التي ارتكبتها عصابته المسلحة بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة، فكان من مظاهر هذا التصدُّع الانتقادات الدولية، وحجم المقاطعة. ثم وصولاً إلى ركيزة تَمَاسُك الجبهة الداخلية، وهي مسألة اتضح أنها إنما تقوم على ما يمكن أن تُحققه إدارة الكيان من إمكانات أمان ورفاهية للغاصبين، وانعدام ذلك يعني غياب الرابط بالمكان، وفي هذا الشأن أيضاً هناك الصراعات السياسية التي تَعْصِف بالداخل الصهيوني بشكل حاد، إذ انفجرت التناقضات وتفاقمت الأزمات وبرزت التظاهرات كما لم يحدث من قبل، في حالٍ يكشف عن تراجع ثقة الشارع بالمستويات السياسية التي تُدير كيانه الاحتلالي، وبالقوة العسكرية التي عجزت عن رد عملية السابع من أكتوبر، ثم عن حسم المعركة وفق الأهداف الاستراتيجية المُعلنة، واستعادة الأسرى.
وتؤكد التحليلات في خلاصاتها على أن "طوفان الأقصى" قد فرض واقعاً جديداً لم يعد فيه الكيان مُتفرِّداً بمسارات المنطقة وإنْ استمرت أمريكا في إلقاء طوق النجاة إليه كحال "خطة ترامب" التي مَنَحت حكومة "نتنياهو" المتطرفة الفرصةَ لالتقاط الأنفاس بعيداً عن الانكشاف، غير أن ذلك لم يَحْجُب رؤية حقيقة أن المحتل والكيان غير الشرعي بات فعلياً أمام لحظة تاريخية فاصلة، ومُثقلاً بتبعات اختلال استراتيجي يُنذر وجوده بالتآكل شيئاً فشيئاً. يقول الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني شرحبيل الغريب "لم تكن عملية طوفان الأقصى مجرد عملية عسكرية عادية من المقاومة الفلسطينية، بل في القراءة الاستراتيجية تُعدُّ تحوُّلاً مفْصَلياً شكَّل ضرْباً واضحاً لمفهوم إرادة البقاء للمشروع الإسرائيلي، وأدخله من مرحلة الصدمة والارتباك لحظتها إلى مرحلة فقدان البوصلة لاحقاً، فقد كشفت العملية -لحظةَ تنفيذها- قدرةَ المقاومة الفلسطينية على اختراق منظومة الأمن الإسرائيلية، وضرب مراكز حساسة في قلب العمق الإسرائيلي. هذا كله أدى إلى انهيار مساحة كبيرة من الثقة بين الجمهور والمستويات الرسمية".